الثلاثاء 10 إبريل-نيسان 2012 11:06 م
قطع فان جوخ أذنه ووضعها في صندوق لكي يهديها لحبيبته. وقبل أن يغلق الصندوق، ألقى فيه بقصاصة كتب عليها: “أن أضع نهاية للألم خير من أن أعيش ألماً بلا نهاية”. كان ذلك الصندوق موضوعا ضمن مقتنيات متحف مدام توسو في أمستردام. وكانت رؤيتي له هي المرة الأولى التي أعرف فيها عن فنان تشكيلي شهير يدعى فان جوخ، وأعرف فيها مدى أهمية الرسامين والرسم عموماً في تاريخ الشعوب .
اليوم، أتابع باهتمام ما يقوم به رسامو ورسامات حملة “لوّن جدار شارعك” في صنعاء، وأتذكر قصتي مع صندوق فان جوخ قبل أكثر من عقد.
زرت أمستردام عام 1998 لدراسة الجندر والتنمية في المعهد الملكي الهولندي. كنت في الـ22 سنة، لا أفهم في الرسم أو الموسيقى أو السينما أو السياحة. وفي أحد أيام السبت قررت أن أسلك سلوك السائحين، وأفعل مثلهم، فوضعت جدولا لزيارة ميدان أمستردام الرئيس، متحف مدام توسو، وإحدى السينمات لمشاهدة فيلم “تيتانيك” في أول عروضه هناك.
وفي المتحف، مررت بعروض بديعة امتزج فيها التكنولوجيا والتاريخ كآلة عرض بانورامية اسطوانية تلف وتلف، وفي كل لفة هناك مجسمات صغيرة ودقيقة تتحرك بإتقان على سطح الآلة الاسطوانية، عارضة من دون صوت، تاريخ هولندا منذ عصر النهضة إلى العصر الحديث. بعد هذا العرض البانورامي، رأيت غرفة مليئة بالدماء وأدوات التعذيب الوحشية، وتماثيل لجثث قتلت بطرق مختلفة. كل ذلك القتل كان يعود لعصر الكنيسة، وكل أولئك القتلى كانوا سياسيين حاولوا صياغة وثيقة لفصل الدين عن الدولة .
الطابق الثاني خُصص لنهضة الشعب الهولندي، ولم يكن فيه سوى فان جوخ: صورته، بعض من لوحاته، كرسيه وطاولته الخشبيين الصغيرين، وبعض من مقتنياته المتواضعة. بدا لي هذا القسم من المتحف باهتاً للغاية، واستغربت من وجوده أصلا. كنت سأعبره بسرعة إلى أقسام أكثر إدهاشا، لكن مرشداً سياحياً أسود البشرة طويل القامة عُين خصيصا لهذا القسم، استوقفني ببسمة على شفتيه العريضتين كشفت عن أسنانه البيضاء الكبيرة التي تحركت فوراً لتخبرني كثيرا عن شخص اسمه فان جوخ .
لم أكن أعي معظم كلماته لصعوبة فهمي اللغة الإنجليزية، ولغة الفن تحديداً، لكنني أتذكر تماما أنني فهمت أن فان جوخ كان رساماً رفيع المستوى قليل الحظ، قطع أذنه وأهداها لحبيبته في صندوق، وقبل أن يغلق الصندوق رمى بقصاصة كتب عليها: “أن أضع نهاية للألم خير من أن أعيش ألما بلا نهاية”. كان ذلك الصندوق ضمن مقتنيات المتحف أيضاً .
لم أعد أنا نفسها قبل زيارتي لفان جوخ؛ كنت شابة أخرى تشغلها قصة الأذن المبتورة لفنان بائس هو اليوم بطل قومي في متحف مدام توسو بأمستردام. وفيه -ذلك المتحف- لم يكن هناك من ينافس فان جوخ من الأبطال التقليديين الذين عادة ما نراهم فوق أحصنة قوية وفي أيديهم سيوف حادة وعلى رؤوسهم الخوذات .
بعد مغادرتي المتحف، قطعت عدداً من الشوارع والباحات والمنتزهات، وفي كل مناسبة تصادفني فيها لوحة مرسومة، وإن كانت معلقة على جدار مطعم، أوجه سؤالا واحداً: هل هذه اللوحة لفان جوخ؟ أي من اللوحات كانت لفان جوخ كما أخبرني العامة بثقة بدت لي صادقة، فهؤلاء الهولنديون يحفظون ألوان فان جوخ كما يحفظون صور علم هولندا أو عدد أجنحة طواحين الهواء المنتشرة في كل مكان لتجفيف الماء عن هذا البلد المبني فوق برك الماء الكبيرة .
لم أستسلم، وقررت البحث عن آثار جديدة لرفيق جولتي الوحيد: فان جوخ. لكن النهار انتصف، وغلبني الجوع والتعب، فاشتريت ساندويتشاً من عربة على الطريق كانت محاذية لحديقة المدخل الرئيس لجامعة أمستردام. جلست على حافة أحد الأرصفة المحاط بالأشجار القصيرة والطويلة من كل ناحية. وفجأة، وقبل أن أكمل وجبتي الصغيرة، وأهم بالعودة إلى الفندق، لمحت تمثالاً صخرياً كبيراً منتصباً خلف الأشجار التي تنتشر في الحديقة. شهقت وقلت في نفسي: “هااا، يمكن يكون هذا التمثال لفان جوخ”. استوقفت بعض الطلبة وسألتهم عن التمثال، وكان ردهم بأنه بالفعل تمثال فان جوخ. وقفت أسفل التمثال ونظرت إلى الأعلى دقائق كثيرة متمعنة في لا شيء تحديدا، لكنني حرصت على أن تتفحص نظراتي أذنيه من جميع الجهات، ثم نسيت أن أكمل وجبة الغذاء أو أذهب لمشاهدة “تيتانيك “.
في صباح يوم الاثنين، أثناء ذهابي إلى الدراسة بصحبة بعض الطالبات والطلبة الذين جاؤوا من بلدان مختلفة لم أكن أعرفها من قبل؛ كجزيرة سي شيل وسورينام، مررنا على الحديقة، وقد كنت أترقب الفرصة للمرور في مكان مناسب من الحديقة يظهر تمثال فان جوخ، لأقطع حديثهم الصباحي، وأشير بإصبعي نحو التمثال، وأقول بصوت عالٍ نسبيا: “انظروا، ذلك تمثال فان جوخ “.
لكن الغريب في الأمر، أنني وإلى اليوم، لا أستطيع التعرف على وجه فان جوخ بسهولة كما يسهل عليّ التعرف على وجه بيتهوفن مثلاً أو سلفادور دالي. لم أقرأ عن الرجل، لم أتصفح لوحاته. لا أعرف إن كان فان جوخ اسمه الأول أو الأخير أو في أية سنة ولد. أيضاً، أنا لا أعرف بما أصفه: فان جوخ الشجاع أو الحزين أو الحساس أو المجنون أو البائس. أنا لا أعرف! فقط أستطيع التكهن بما ستكون عليه إجابة أي هولندي أبيض أو أسود عند السؤال عن جنسيته. سيقول: “أنا من بلد فان جوخ “.
استحضرت هذه القصة خلال نقاش أثاره الصحفي ريان الشيباني، على حائطه في “فيسبوك”، أضاء من خلاله فكرة ذكية تتعلق بمتعة المغامرة التي خبرها فان جوخ وحده دوناً عن العالم، على الرغم من حالة البؤس التي كانت تغمره، ذلك حين قطع أذنه وأهداها لحبيبته. تلك القضية ما تشغل ريان، أما ما يشغلني فقصة الخلود. قصة تخليد الفن عند الهولنديين، وحين يرتبط البؤس أو المغامرة بالفن، تخلد هي أيضا .
اليوم في صنعاء، يلون الفنانون من الشبان والشابات والناس العاديين والأطفال، جدران المدينة التي جرحتها طلقات الرصاص والقذائف، ضمن حملة “لون جدار شارعك”، التي أطلقها الرسام الشاب مراد سبيع، في الـ15 من مارس المنصرم. أراهم اليوم وكأنهم يرسمون فان جوخ، ذلك البطل القومي الذي انتصر بفنه وبؤسه ومغامراته على الأبطال التقليديين ذوي السيوف والدروع، ذوي الكلاشينكوف والمعدل، كقادة ورجال الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع. ما سيخلد اليوم في صنعاء هو لون ومشاعر الأبطال الجدد، وسيهرب أبطال السيوف والبنادق من الذاكرة كلما جف لون على الجدار .