لطفاً، لا ترمي القمامة فوق القبور،
فأنت ميت، وهم ميتون!
تلك عبارة كتبها أطفال من مدينة #عدن بمناسبة يوم #الفن_المفتوح على أول جدار لإحدى مقابر المدينة.
15 مارس هو الذكرى التاسعة ليوم الفن، الذي بدأه الفنان مراد سبيع في صنعاء عام 2011، وأصبح منذ خمس سنوات تقريباً، يتنقل بين عدد من مدن اليمن والعالم. إنه يوم يخرج فيه الرسامون والهواة، شباباً وشابات، أطفالاً ومسنين، للرسم على جدران الشوارع معبرين بذلك عن أنفسهم، أرائهم، قضاياهم ومواقفهم.
تابعت يوم الفن في كل سنينه، وهذه السنة وقبل يومين بالتحديد، كان يوم الفن في عدن مختلفاً عن نظرائه في بقية السنين وبقية المدن. لقد تولى الفنان التشكيلي علاء روبل إقامة المناسبة في عدن بمشاركة أصدقائه وصديقاته، وكان منهم أطفالاً، لكنهم أختاروا إحدى مقابر المدينة لتكون مكاناً للاحتفال، لتكون خشبة المسرح وجدرانه!
فكرة كهذه أصابتني بالدهشة، لقد فاقت تصوراتي المحكومة بفقر البلد بنواحيه المادية والمعنوية والفكرية. وإذ لازلنا ندين بالشكر للفنان مراد سبيع لإبتكار مثل هذا اليوم الذي وفر فرصة للشباب والشابات والأطفال للتعبير والابداع والعيش لساعات قليلة مع الجمال مساهمين بذلك في جعل الفقر أقل نسبة، إلا أن فكرة الفنان علاء روبل للاحتفال بيوم الفن في مقبرة والرسم على جدرانها، قد تعدت مسألة التعبير والإبداع والجمال إلى الفلسفة.
أول أمس، مع نشاط روبل وشركائه، اتخذت مناسبة يوم الفن منحى جديد، لقد تسلل البعد الفلسفي بقصد أو بدون قصد إلى المناسبة، وليس بصفته النظرية هذه المرة، أو صفة التأويل أو الرمزية، ولكن بوصفه تجسيداً، تجسيد للرمز والمعنى، في بث الحياة أو الموت- لا يهم أيهما- للفكرة، في تشكيلها من جسد ولون وضمير وجدار من خلفه يرنو بلد فقير دامي.
في المقبرة، حيث صورة الموت المعتادة من قبر ولحد ومشهد وفي أفضل حال رياحين، رسم أصدقاؤنا بقية صور الموت في اليمن. لقد رسموا الاكتئاب، رسموا الاضطهاد، رسموا الأوبئة، رسموا قبراً للسلام بنصف ساعة حائط على مشهده، ربما أرادوا أن يرسموا احتضار السيد السلام، أو ربما أرادوا أن يرسموا أزف مبعثه، لكن الأطفال رسموا طفولتهم على جدار المقبرة أيضاً، رسموا شجرة شديدة الخضرة تحيط بها الأيادي الصغيرة الملونة من كل جانب، وكتبوا أسفلها “الطفولة”. والأطفال أنفسهم رسموا لوحة أخيرة على أول جدار المقبرة، قالوا فيها: لطفاً، لا ترمي القمامة على قبور المسلمين، فأنت ميت وهم ميتون!
حقيقة، لم أرَ تحدياً لفكرة الموت كهذه، إذ لم أرَ خوفاً أو رهبة منه، بل رأيت تعايشاً، فإن كان ولابد للموت أن يكون حياتنا، لطفاً لا ترمي القمامة فوق القبور! وعلى الجهة الأخرى، رأيت أيضاً مقاومة. المقاومة ضد العدم، ضد الموت، المقاومة لأجل الوجود، لأجل الحياة، وما من وسيلة باستطاعتها ابراز فكرة الوجود سوى نقيضتها: المقبرة. وفوق ذلك، وضد كل هذا النزيف في بلدي، حشد علاء ورفاقه كل ما حولهم من أجل الوقوف ضد العدم وفي صف الوجود، حشدوا الألوان، الأطفال، الأفكار والمعاني، كما حشدوا المقابر والموتى.
وبنفس الوقت لم أخبر تحدياً أصعب من كتابة هذا المنشور، فلازالت فكرة الرسم على جدار المقبرة وكتابة تلك العبارات ورسم تلك اللوحات، التي جلها كانت بأيدي الأطفال، أعمق من كلماتي، وأفصح مما يدور في رأسي!
شكراً لعلاء وكل من شاركه من شباب وشابات وأطفال في الجميلة عدن، وشكراً لمراد، ويوم فن سعيد للجميع